كيف يمكننا أن نقف على قدمين من ثبات وسط رمال الشكوك المتحركة التي تأخذ بأقدامنا وخصورنا وأرانب أنوفنا نحو مستنقع آسن؟ وكيف نثبت ونحن نرى الناس تتخطف من حولنا، ونرى البلدان التي قاومت التعرية والتحلل عبر تاريخ طويل تتهاوي كمنازل آيلة للنسيان؟ كيف نطل من وراء خيام نزعتها الريح في يوم عاصف بوجوه ملؤها اليقين على غمام يحيط ببلادنا من المحيط إلى المحيط، لنخاطب إلهنا في ثقة: “افعل ما شئت، فإن نصرنا عليك.” يوما فر موسى من طوفان فرعون وملأه، وهرب بقومه من ريح صرصر لا تترك في الصدور يقينا إلا انتزعته، ولا ثقة إلا وزلزلتها، وخلفه جيش سلطان يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. وأمام بحر لجي من فوقه سحاب، قال رجل من قومه: “إنا لمدركون!” ليرد موسى في ثبات: “كلا! إن معي ربي.” وذات فرار، بشر أول اثنين التحقا بالغار سراقة بن مالك بسواري كسرى ومنطقته وتاجه. فيعود الرجل من رحلة المطاردة اليائسة بيقين لا يخالطه شك بأنه سيدخل بلاط كسرى ولو بعد حين، وأنه سيلتف حول ساعديه الأزبين “كثيري الشعر” سواري كسرى بن هرمز. من أين لنا اليوم بيقين محمد وهو يبشر صاحبه وقد رآه في الغار مبتئسا: “لا تحزن، إن الله معنا”؟ وكيف نحتفظ بيقيننا كاملا في زمن تناوشته الفتن، وجلس على كرسيه الخونة والمفسدون؟ كيف نمتلك عقولنا وقد بلغت قلوبنا الحناجر وأحاطت بنا جيوش الأعداء من كل ناصية، تضرب عند الحدود تارة وتضرب في العمق تارات، دون أن تعترض مؤامراتها الكونية لحظة تدبر من قوم نسوا الله فأنساهم كيف يعدوا للقبر عدته. وأين المفر من يوم كسقر، يحشر الناس فيه أحياء ليذوقوا وبال أمر من خان وخسر؟ وكيف نقف على ساقين من ثبات وريح الخيانة تعبث بكل خيامنا المتهالكة، فنخبط في ليلنا الكالح خبط عشواء، فيصيب بعضنا بعضا، ونؤكل من الفخذ مرة ومن الأكتاف مرات، دون أن تهتز في جسد نخوتنا شفرة، أو تتحرك لنجدة الصاحب بالجنب منا قناة؟ كيف نواجه الموت القادم من الشمال الشرقي والجنوب الغربي ومن الحدود وخلف الحدود؟ ومتى نحصل على هدنة وإن بشروط مجحفة لنواري فيها قتلانا الثرى، ونعيد حساباتنا التي اختلطت بالهوى والميل والضلال؟ كيف نقبض على هذا الجمر الذي يتقزم يوما بعد يوم ليعود إلى دار الأرقم خوفا من أبي لهب وأبي جهل؟ وإلى متى يتوارى العالمون ويتصدر الغافلون موائد القنوات الفضائية ليطفئوا نور الله بأفواههم القذرة دون وازع من دين أو ضمير. تزداد الظلمة من حولنا فجرا بعد فجر، وتزداد المؤامرات اقترابا من محاريبنا ساعة تلو أخرى، ويتجرأ السفهاء على المعابد، فيلقون سهامهم في وجه السماء ليقتلوا الرب في أعماق قلوبنا الراجفة. وتزحف فلول الجاهلية من كل حدب ليطاردونا حتى حدود اليقين. فمن أين لنا بعصا موسى؟ وكيف نمتلك يقين محمد في زمن تختلط فيه الأشياء، ويتوارى فيه العلماء؟ من يستطيع أن يقف في وجه أطماع بن جوريون؟ ومن يقرض صحيفة المقاطعة، أو يمزق رسالة هولاكو؟ من بمقدوره أن يعيد الحدود التي تبعثرت ويرمم الديار التي تهدمت؟ ومن يحيي هذه الأرض بعد موتها ؟ من يهزم الدواعش، ومن يبشر سراقة البدوي بمكتب ترامب في البيت البيضاوي؟ من يستطيع أن يرد إلينا الأقصى أو يعيدنا إليه؟ أقف أمام طوفان هذه الأسئلة وأنا لا أمتلك عصا موسى، ولا مركب نوح، ولا يقين محمد؟ وأسأل كما سأل الصحابة ذات يوم حين دارت الأعين في المحاجر وبلغت القلوب الحناجر، لكنني لا أظن بالله الظنون، وأنتظرالوعد الآخر بقلب مفعم باليقين تتردد في أذني بشارة محمد: “لا تحزن، إن الله معنا.” عبد الرازق أحمد الشاعر Shaer129@me.com